إطار مفاهيمي للعمارة العربيّة
Écrit par قحطان المـدفعي   

 

Qahta MIDFA'Y*

icon Télécharger l'aricle (984.95 KB)

لقد أعلن العام الغربي مرتين خلال القرن العشرين عن المبادئ العمارية التي تصلح ان تكون إطارا فكريا للعماري والعمراني الغربي وان تبقى منارا للأجيال النامية. كان اولها عام 1927 في اجتماع جزيرة ديلوس اليونانية المشهور والذي حضره نخبة من مشاهير العماريين والفنانين الغربيين بينهم كوربوزييه وكروبيوس وبيكاسسو وبراك وغيرهم وأعلنوا المبادئ التي التزم كل منهم به وأصبحت بعدئذ مبادئ ما نسميه الآن العمارة الحديثة. وأسسوا في ذلك الاجتماع جمعية العماريين العالمية (س. ي.ا. م) والتي حلت نفسها عام 1956معلنة انها قد فشلت في تحقيق العالم الذي كان المفروض تحقيقه – رغم أن أوروبا قد بنيت بِرُمّتها وفق تلك المبادئ – وأعلنت بأن السبب في ذلك الفشل كان عدم تضمن مبادئ 1927القدر الكافي من العناصر النفسية والجمالية التي يحتاجها الإنسان الحديث

 

 

وبقي العالم الغربي حائرا بدون توجه معين في العمارة حتى انعقاد اجتماع (ماجو بيجو) في بيرو جنوب أميركا والذي حضره أيضا النخبة العمارية المعاصرة وكان نتيجة الاجتماع هو إعلان ما يسمى الآن وثيقة(ماجوبيجو) 1979 لمبادئ العمارة الغربية وأميركا.

 

والعالم العماري العربي هو الآخر في أشد حاجة إلى مبادئ عمرانية وعمارية وأهداف عُليا ومفاهيم جذرية يهتدي بها تتضمن ما يعتبره العمراني والعماري والمهندس والطالب والمؤرخ والفنان العماري بأنها أهداف حياتية تعرف طبيعة المهنة وواجباتها والأساليب التي تتبعها للوصول إلى تلك الأهداف.

 

وفي أدناه إطار مفاهيمي للعمارة العربية اعلنها للقراء والعاملين في العمارة في العالم العربي لتكون مثارا للأفكار داعيا إلى قبولها وإلى بث مبادئها وإلى خلق إجماع بين العماريين كاف لعقد ندوة على نطاق عربي لمناقشتها والتداول في مضمونها والخروج بما يرتؤونه مناسبا من الإجراءات لإعلان مبادئ العمارة العربية والذي سيؤدي دون شك إلى عمارة عربية أكثر تنسيقا وإلى ممارسات عمارية أقل جريا وراء الأفكار المستوردة.

 

إلى عماري المستقبل

لقد حلت فترة الحداثة ورحلت عن العالم المتقدم وكثيرون هم الذين يزعمون توكيدا بأن "ما بعد الحداثة" هي الصفة التي يصطبغ بها النصف الثاني من القرن العشرين. ولا أظن هناك من ينازع الادعاء بأن تطور العالم الغربي وأميركا الشمالية كان ولا يزال هو نموذج التطور الذي ركض ورائه حثيثا العالم العربي بدرجات وأشكال متباينة مختلفة من التقليد الأعمى إلى التفسيرية الحرة في اقتباس المعالم الحضارية الغربية. ولا يستثنى العمران العربي من شمولية الفرضية أعلاه بل يمكننا على العكس أن نجزم أن الأشكال والأفكار الهندسية التي تسود العالم العربي والتي كانت ولازالت الأساس الذي قاد عمليات الإنشاء والعمران هي أفكار وفلسفات غير نابعة من التراث العمراني العربي الأمر الذي أنتج مدنا لها صفات غربية وأميركية أكثر مما هي صفات عربية. وبكلمة أكثر صراحة لقد فقدت العمارة العربية هُويتها وشخصيتها من جراء إتباع الحضارة الغربية في مسيرتها المعاصرة. وبهذه الخلفية الفكرية نحن ننظر إلى ندوة العمارة العربية من موقف الحرص على هوية عمارتنا التي في إحدى الفلسفات على الأقل هي هويتنا نفسها فنحن في هذا المجال إذن حريصون على الحفاظ على هويتنا. ومن هذا المنطلق الجذري العميق ترتسم معالم وأطر ومواضيع ندوة العمارة العربية وتتحدد أهدافها.

 

والعمارة ليست هي إنتاج المعماري والمهندس المعماري أو العماري الفرد بل هي ناتج المفهوم المركب من اصطلاح عمراني اجتماعي والذي وضع فحواه أبو نصر الفارابي في كتابيه "السياسة المدنية" و "آراء أهل المدينة الفاضلة" والذين وضعهما في بداية القرن الرابع الهجري ببغداد. وهي كذلك المفهوم العمراني الذي حدده لنا مؤسس علم العمران الاجتماعي والحضري ابن خلدون في تاريخه وخاصة في مقدمته المشهورة.

 

أما بصدد الفن العماري العربي التاريخي نفسه فلا ينقصنا برهان ولا شواهد عن الإنجازات في حقل هذا الفن ولا عن الهندسات والتقنيات المختلفة التي استخدمت لإخراج تلك الإنجازات إلى حيز الوجود.فالمكتبة العمرانية والعمارية العربية وإن لم تكن في الدرجات العليا من الاكتمال ولكنها غنية بما فيه الكفاية للباحث والدارس والمتعمق.

 

وليس وجود أو عدم وجود المادة التاريخية العمرانية هو موضوع نقاشنا بل موضوعنا هو ماذا نصنع بتلك المادة وكيف نستعملها لأغراضنا المعاصرة وما نأخذ منها وما نحصل وبأي من أساليب وطرق الاستعمال أي التفسيرات نأخذ وبأي من الفلسفات نلتزم في تعصير تراثنا العماري والعمراني؟

 

هناك ثلاث فلسفات للنظر إلى التاريخ العماري والعمراني من خلالها: النصوصية والتفسيرية والتأويلية. وتختلف هذه الفلسفات الثلاث عن بعضها بالدرجة فقط لا بالنوعية. تتباين بدرجة الالتزام بالأصل أو النص التاريخي أو الشكل العماري التاريخي تحت الدرس سواء كان الشكل مدرسة أو خان أو مسجد أو قصر. ودرجة الالتزام بالأصل أو النص يعتمد على عنصرين مهمين: عنصر أهمية التاريخ في مجمل الفكر الفلسفي العمراني وعنصر القرار الذاتي (وقد يكون قرار المجموع أيضا) باستعمال التاريخ لتطعيم الحاضر والاستفادة من المواد التاريخية لإسناد موقف معاصر أو قضية معاصرة أو فكر معاصر.وفي تطعيم الحاضر بالماضي على حساب تطعيم الحاضر بالحاضر من إعلاء للذات والإشادة بالنفس الفردية أو الجماعية ما يجعل من هذا النمط من التفكير نمطا مرغوبا ومستعملا بكثرة.

 

وعلى هذا الدرب إن سرنا سنلقي بأسئلة كثيرة عن موقفنا الوجودي. هل أن التاريخ حقيقة أم هو تركيب فكري؟ إن كان حقيقة واقعة فكيف نتعايش مع ما هو غير موجود حاليا ونضطر إلى استعادة تركيبة من اللغة والسماع والبصر والنظر إلى الآثار. وإن كان التاريخ هو تركيب فكري لموقف معاصر عن حوادث مضت فما هي قيمة هذه التّراكيب الفكرية (التي هي الماضي) من النواحي العملية والواقعية.

 

ثم إن كان تعاملنا زمنيا قد انصب لحد الآن على بعدين زمنيين فقط الحاضر والماضي فأين مكانة ثالث الثالوث من تفكيرنا وموقفنا المعاصر.أنحن سائرون باتجاه الخلف وإلى الوراء أم إن الزمن يمتد إلى مستقبل أمامنا نحن مضطرون إلى مجابهته وتوقعه وانتظاره و التخطيط له ولما سيقع فيه؟ فإن كانت الشخصية الإنسانية تستخدم الثالوث الزمني فأي من رؤوس المثلث نضعه في الأعلى، الماضي أم المستقبل أم الحاضر؟ وأي كان من تلك رؤوس المثلث بعد وضعه إلى الأعلى سيكون عندئذ مؤشرا إلى ما نقصده ونبراسا إلى ما نبتغيه وهدفا إلى ما نرومه. هل أن هدفنا هو المستقبل أم هو الماضي؟

فإن أقرّينا بأنّ هدفنا هو مستقبل سعيد نحاول جهدنا أن نحققه فيجب علينا عندئذ أنْ نستقرأ الماضي والحاضر بدلالة المستقبل لا غير. وأنْ نستقرأ معاني الماضي والحاضر بمعاني المستقبل فقط.

 

هذا هو أحد المواقف من التراث العمراني والعماري، وهناك مواقف أخرى سيستثيرها البحث لإجلائها وتبيانها.

 

ما هي شمولية معنى العمران والعمارة في زمننا هذا؟ وبالأحرى إلى أي درجة امتدت يد التجزئة التحليلية في أعماق العمران العربي؟ وأسوة بالممارسات الغربية العملية الواقعية الصرفة أصبح هذا العلم متركبا من علوم البناء والإنشاء والجغرافيا الحضرية والإسكان الريفي والحضري والعمارة وهندسة الطرق والتخطيط القطاعي والإقليمي والإحصاء وفلسفة الرياضيات. والعلماء في هذه الحقول يتناولون بطريقة أو أخرى في اختصاصاتهم ما يخص علم العمران وهم بصورة غير مباشرة يصبون إنتاجهم في المسرى العمراني العام. وإذا قارنا هذا التجزأ التحليلي بالأسلوب الواحدي الذي تناول به كل من الفارابي وابن خلدون علم العمران نجد أمامنا مشكلة كبيرة هي مشكلة التجزئة والتوحد في مجابهة علم العمران والعمارة العربية.

 

إن ما يثير هذه المشكلة لنا هو طبيعية الفكر العربي الميال إلى التوحيد وهي اللغة العربية نفسها الحاملة إلى الكثير من مضامين الفكر التوحيدي.

 

وماذا عن الأسلوب والفكر الهندسي في ممارسة العمران والعمارة؟ من يمارس العمران ومن هو المخطط وصاحب القرار العمراني في المجتمعات العربية المعاصرة وما هو موقف الفرد من تلك القرارات. هل هناك مساهمة عملية من قبل الأفراد بأي درجة كانت من المساهمة في الاشتراك بالقرار النهائي الذي عند تطبيقه وتنفيذه سيمس الفرد مساسا مباشرا بكافة مجالات حياته، هل أن مبدأ المساهمة في القرار العمراني هو وارد البحث في عصرنا هذا الذي يتصف بمركزية القرارات ومركزية تنفيذها؟ ومركزية القرار والتنفيذ هنا إذا كانت موضوع استفسار وتحليل افليْست مركزية بث الراديو والتلفزيون والإعلام والثقافة العامة والعقيدة والدفاع المشترك والأمن والعلاقات الدولية الخارجية والسفر بكافة أنواعه والبريد والتواصل الإعلامي وغيرها من جوانب الحياة، أليست كلها مركزية فما بالنا مهتمين بلا مركزية العمران فقط؟. إن دعونا إلى لامركزية العمران والمساهمة في القرارات العمرانية فما هو موقفنا من مركزية كل ما جاء أعلاه من الأمثلة.

 

ومما جاء أعلاه يتضح أن للعمران دلالات واسعة لا تقف عند حدود الإنشاءات والبناء. فالموقف من العمران العربي هو الموقف من الحياة المعاصرة العربية والعالمية.

 

والموقف من التطور الفكري الهندسي يقع في جذور المواقف الأخرى حيث أنه بنفس الوقت موقف تطور العلوم والاكتشافات العالمية.

 

فبالإضافة إلى التأثيرات التاريخية القديمة التي تأثر بها الفكر العربي قبل الإسلام من فلسفات فرعونية وبابلوشورية وارسطوطالية وأفلاطونية فأن التوحيد ساد الفكر العربي وأصبح فيما بعد الأسلوب العلمي في التفكير. وبعد انحسار الفكر البابلوشوري واليوناني القديم وظهور أفكار هندسية أكثر معاصرة بدأت بِديكارت في القرن السابع عشر وبنظرته إلى الكون كتنظيم هندسي وإلى الوجود الذي ترجمه على أنه متكون من سالب وموجب وعلوي وسفلي. وعند الرجوع إلى جذور هذه الأفكار نجد فكرة اليمين الخيّر واليسار المشؤوم والفيض الكوني الوارد من الأعلى بهيئة زوايا وأشكال هندسية هي مبادئ كانت متداولة لدى السومريين ومثلها كانت لدى الفراعنة بأشكال مشابهة. أما تأثر ديكارت بالعلوم العربية التي وردت من الأندلس العربية فهو موضوع وإن يشار إليه بعض الأحيان ولكن دراسته وبحثه مازالا في أدوارهما الجنينية.

 

ولحق ديكارت إيمانوال كَانْت الذي أدخل العنصر الإنساني بالتوجه الفردي كطرف رئيسي في خلق المحيط والبنية البشرية. وبأفكار كَانْت ثبتت الرومانسية كمبدأ للتخطيط والتصميم وللهيئات العمرانية وللتعبير الفردي في العمارة. وهذه الفردية الجديدة الواردة إلى البلاد العربية تناقضت ولازالت تتناقض مع طبيعة التفكير العربي الذي يعطي للجماعة ولأرائها قيما عليا في مجتمعاتها. فالبحث في تأصيل العمران العربي يجب أن يحدد بالضبط درجة تغلغل وانتشار الأفكار الكَانْتية في العلوم والممارسات العمرانية لوضع حدّ لها وبنفس الوقت تحديد موقف ومبدأ رأي الجماعة في الممارسات العمرانية والمعمارية ليمكن عندئذ رفض الدخيل والهجين على مجتمعاتنا وإعلاء شأن الأصيل.

 

أما أفكار هيكل وخاصة تلك التي تعنى بالمدينة والدولة والفنون فلقد أصابت من البحث والتحقيق ما فيه الكفاية مع العلم أن تلك الأفكار إجمالا هي ناتج المبادئ والأسس الفكرية الكانتية.

 

والنقد نفسه يوجه إلى نظريات داروين وسيكموند فرويد. الداروينية أهملت تأثير المجتمعات في تكوين الفرد واعتبرت أن البيئة توجه تأثيراتها وقواها على البشر الفرد وهذا الأخير ينقل ناتج التأثيرات البيئية إلى الجيل الجديد. فاعتبر داروين أن المجتمع متكون من أفراد منفصلين تربطهم الحاجة والضرورة. وهذا المبدأ هو بعينه الذي ترفضه الأفكار العربية التي تعتبر أن المجاميع البشرية هي الوحدات الأساسية وإن الفرد هو جزء تكويني منها. ومن هذا يتضح عمق الهوة التي تفصل التوجه الغربي (الدارويني) في العلوم الحياتية عن المبادئ العربية لتكوين المجتمعات. ولحسن الحظ فأن مبادئ داروين هي تحت النقد والنقض يومنا هذا وإن الداروينية الجديدة قد تقرب الهوة بين الشرق والغرب.

 

أما سيكموند فرويد ومدرسته التحليلية في علم النفس فلم تعر المجتمع أي اهتمام في التكوين النفسي للأفراد إلا ما هو متعلق بتطور العقل الباطن الفردي. وحتى التأثيرات الجماعية أو الاجتماعية على الفرد أطلق لها اصطلاح "الأنا العظيم – (super ego)" وكأنها تأثيرا على الفرد من شخصية عليا غير واضحة المعالم ولكنها مأخوذة من صورة الفرد نفسه أو من هو في قوام السيطرة كالأب أو الأم وغيرهم. ومرة ثانية ولحسن الحظ لقد تطور علم النفس الاجتماعي وتغير محور تركيز التأثيرات على الفرد من العقل الباطن إلى البيئة الجماعية التي يتكون منها الفرد.

 

وفي علم النفس الاجتماعي الحديث والمعاصر ما يبشر بإمكانية وضع الأسس العلمية النفسية، الفردية /الاجتماعية لمجتمع العمران العربي المعاصر بعيدا عن الفردويدية والدروينية الكلاسيكية.

 

ورجوعا إلى المبادئ التي اعتمدها داروين وفرويد نجدها في أفكار توماس هوبز الإنكليزي في القرن السابع عشر الذي صور المجتمع على هيئة إنسان هائل الأبعاد والصفات يقف ورأسه في الغيوم وقدميه على الأرض. ولكي نعرف سعة الفروق بين هذا التصور الغربي عن الإنسان وبين الإنسان العربي في الفكر العمراني فمن الأحرى بنا أن نرجع إلى ما حدده ابن عربي (1240 م) عن شخصية ونفسية الّّّّّإنسان الكامل وإلى ما شرحه ابن سينا عن العمران والعمارة في ما يخص السببية وربطها بخلق الأشياء وهل أن العماري هو الخالق للعمارة أم هو السبب الطارئ على خلقها.

 

وكلاهما ابن سينا وابن عربي يتفقان بأن الصورة في ذهن صانع الأشياء ومنها صانع العمارة أو العمراني والعماري هي السبب في خلق الشيء فما هي طبيعة هذه الصورة وما هي جذورها وكيف تتكون الصور الذهنية لدى العماري والعمراني لتكون السبب في وجود العمارة والعمران. وإذا كانت الصور الذهنية التي ترد إلى العماري والعمراني من مجتمعه هي السبب في خلق العمارة والعمران ومنها يحصل تسلسل واستمرار النسيج العمراني في الزمن أقول إن كانت تلك الصور هي في ذهن الإنسان فما حال صورة جسم الإنسان نفسه في ذهنه. أي كيف يتصور الإنسان صورة جسمه التي هي جزء من شخصيته الاجتماعية وبالتالي هي الوحدة القياسية الأولى أو الحيز القياسي الأول في التركيب العمراني. هناك الكثير من المراجع الغربية عن هذا الموضوع المهم في العمارة ولكن الأحرى بنا الرجوع أولا إلى كتابات إخوان الصفا (ولو أنها استمرار للأفكار الأرسطوطالية) عن الإنسان كعالم صغير وعن جسمه كالحيز الأول. وكذلك الرجوع إلى أفكار ابن باجة في مواضيع علاقة العقل الإنساني بالجسم الإنساني والحيز الأول والذي نسميه في العمارة بالمقياس الإنساني.

 

وعودة إلى معلمنا الكبير ابن خلدون مستخرج وواضع علم العمران فأنه كان يدافع عن النزعة القومية في فلسفة العمران وهو بهذا الموقف يختلف مع ابن رشد ويساند الغزالي في موقف فكري جذري ضد إنشاء وطن قومي للفلسفة اليونانية في الإسلام.

 

فلقد كثر المفكرون الذين يعتبرونه طبيعيا ومفروغا منه أن الفكر اليوناني القديم هو أحد جذور الفكر العربي والإسلامي. وبعكسه فلقد قل المفكرون الذين يميزون بين الأفكار العربية الخالصة وغير المستنبطة من الفلسفات اليونانية القديمة وخاصة الأرسطوطالية التي أكثر من أي فكر آخر هيمنت على التفكير البشري. فإذا كنا هنا مهتمين بأمر تأصيل الفكر العمراني والعماري العربي فلا خلاص من التبصر في تسلسل انتشار الأفكار الواردة إلى موطننا العربي في الحقبة الواقعة بين غزو الاسكندر المقدوني وحتى الآن, وإذا كنا راغبين في تحديد تاريخ زماني متسلسل ذلك الذي يبدأ بالاستعمار الهيلينستي على مشرق البلاد العربية والذي ترك من الترسبات الفكرية مازلنا نعانيه حتى يومنا هذا، فالتخلص من الأفكار الدخيلة يجب أن يبدأ باقتلاع دقائق الجذور. ولما كنا في فقر مؤلم عن تأثير الفكر الأرسطوطالي والافلاطوني بصورة خاصة على علم الاجتماع العمراني العربي فلنا أن نستعين بالفلاسفة لتنويرنا عن هذا الموضوع وخطورته. إن التمسك بالأرسطوطالية والأفلاطونية وغيرها من الفلسفات واعتبارها جزأ من تراثنا الفكري هو مثل قبول وجود جرثومة المرض في جسم المريض وكأن ذلك أمر طبيعي. نحن لا نرفض المبادئ العلمية أينما كان منبعها ولكننا نرفض قبولها دون تعريبها ودون فحص ملاءمتها لعاداتنا. فقول الارسطوطالية بالثنائية كأساس للكون يتناقض مع قول الفكر العربي والإسلامي بالتوحيد كأساس للكون. وفي ذلك الكفاية للإشارة على خطورة الموضوع الذي نحن بصدده الآن.

 

فتغلغل الفكر الغربي بالفكر العربي لا يستثني الفكر الهيلينستي ويستمر بالرومان والغزوات من أواسط آسيا والفرس والعثمانيين والإمبراطوريات الحديثة وينتهي وإن لم يتوقف بالهيمنة الاقتصادية والإعلامية الحديثة والتي هي أخطر من كل أنواع الهيمنات التاريخية التي مرت علينا بسبب عدم إمكان الاحتماء وراء الحواجز المادية منها. فالتطور والوعي هما الضمانات الوحيدة – أمام هذا النوع الجديد من السيطرة الفكرية الدخيلة.

 

للعلوم الهندسية وبالأخص النظرية منها تاريخ مثير في الفكر العربي التاريخي. وإذا تخطينا تحديدات تعبير اصطلاح "عربي" لتشتمل جذوره السامية على الحضارة الفرعونية والحضارة الأشورية وقبلها البالية والأكدية وحتى السومرية وأضفنا العلوم الهندسية لتلك الحضارات إلى بعضها لأضحينا نتكلم عن معظم التراث العالمي للفترة السابقة لسقوط نينوي المفجع وانتهاء الأشوريين كدولة ذات سيادة. إلا أن سقوط نينوى أدى إلى انتشار العلوم البابلوشورية على رقعة واسعة من الشرق الأوسط وامتد عبر البحر الأبيض المتوسط وخلال تركيا إلى أيونيا ليمتزج هناك وفي غيرها من البلاد بتأثيرات من الحضارة الفرعونية ويؤدي كل ذلك التيار الهائل من الإشعاعات العلمية والحضارية إلى قيام الحضارة اليونانية القديمة.

 

وإن تكلمنا عن الحضارة البابلوشورية أو عن الحضارة الفرعونية وجب علينا الإطلاع على الهيئات الفكرية الكوزمولوجية في كلتا الحضارتين واستيعاب تلك الهيئات واعتبارها أساسا إلى تفهم الطريقة التي عمل بها العماريون والعمرانيون في تلك العصور. واستيعابنا تلك الهيئات يجب أن يكون بموازاة استيعابنا لمبدأ لا نهاية الكون في عصرنا هذا. أو لبديهية الجاذبية الأرضية وجاذبيّة الأجرام السماوية أو لوجود تركيب معقد داخل الذّرّات يشابه في مساراته مسارات المجموعة الشمسية من النجوم. أو لبديهية تحول الطاقة من شكل جامد كالفحم إلى حرارة وّّّإلى ضوء أو طاقة محركة.

 

وبهذا الأسلوب إن استوعبنا الهيئات الكوزمولوجية في الحضارة البابلوشورية مثلا والتي شملت مسارات النجوم والكواكب السيارة ومنازل القمر وترتيب معاني ثابتة على تلك المنازل والتي فيما بعد تحولت إلى منازل مقترنة بالرموز الأبجدية.

 

فالعمراني والعماري كانا محددين في تخطيط المدن بما تحدده تلك الهيئات الكوزمولوجية وكانا متمسكين باعتقاد جازم بعلاقة العمارة بالقوى السماوية والقوى الخارقة. ولذا فالنظرية التاريخية إلى علوم العمران والعمارة في حضارتنا القديمة أولى لها أن تتغلغل داخل الفكر القديم لكي يكون تفهمها للتاريخ تفهما علميا ويكون استنباط معايير تقيدنا في حاضرنا استنباط عمليا ومفيدا.

وتفصيلا لما جاء أعلاه مثلا نجد أن ثلثي كتاب اقليدس الهندسي"الأصول" مستنبط من نظريات كانت مستعملة في الحضارة البابلوشورية منذ الألف الثاني قبل الميلاد على أقل تقدير.

 

وكذلك إن مبادئ المنظور والتراجع في الكتل والنسب والتدليل والفيض وغيرها من النظريات الفنية كانت معروفة تمام المعرفة ومستعملة قبل القرن السابع قبل الميلاد وقام اليونانيون بتجميعها والتفلسف فيها وتطوير النظرة المثالية إليها.

 

والتعمق في أسس تصميم الأهرام والمعابد المصرية وعلاقة كل ذلك بالتقاليد والممارسات الشعبية والعلوم يعمق تفهمنا لمبادئ التصميم العمراني. ومثله فتصميم مدينة الكوفة في صدر الإسلام الذي سبق تصميم بغداد المدورة يكشف لنا علاقة الهيئات الكوزمولوجية واردة الذر بالتنظيم الاجتماعي وأهميته المركزية في التنظيم العمراني.

 

هذه وقفات تاريخية ينبغي للعمراني والعماري العربي المعاصر أن يعيها أولا ويُجيدها ثانيا ويمارس إجابته عليها ثالثا. وتستهدف العمارة والعمران العربي. أن تطرح موضوع الوعي المعاصر إلى ما ورد من التحديات أمام المعماريين العرب كخطوة أولى في هذا الطريق الطويل.

 

وتبرزمُقوّمات العمارة المعاصرة التي ينبغي أن تصب بها دراسات الفكر العماري خاصّة في المجالات التّاليّة:

المدينة والقطاع

وحدة المدينة والقطاع.

  • ترابط العناصر الأساسية في المدينة وانعكاس ذلك في عمليات التخطيط.
  • تقنية التخطيط وتطبيقها على كافة الأصعدة.
  • احترام التخطيط للحاجات الإنسانية.
  • تعامل مستمر بين الناس والسلطة.

النمو الحضري

  • نمو المدن على حساب الريف وتدهور الواقع العمراني
  • تدهور نوعية الحياة في الحياة العمرانية الحضرية.

مفهوم القطاعات في المدن

  • ضرورة إلغاء مفهوم القطاعات في المدن الذي أدى إلى تجزئتها. التأكيد على ضرورة استمرار الحيز العماري المتماسك في المدن والعاكس إلى استمرارية الحياة.

السكن

  • التعامل البشري والتواصل الإنساني في القطاعات السكنية.
  • السكن ليس سلعة وظيفية بل هو أداة للتطور الإنساني.
  • تصميم السكن ليتضمن قابلية التغير حسب التطور الاجتماعي.
  • يستهدف السكن مساهمة فعالة من مستعمليه سواء في التصميم أو في الإنشاء.
  • توفير أجزاء إنشائية رخيصة جاهزة لإنشاء الدور.
  • تحديد تقسيم القطاعات السكنية إلى أحياء غنية وأخرى فقيرة والخروج بحلول إنسانية أقل تطرفا.

المواصلات الحضرية

  • ضرورة تطور المواصلات في المدن بشكل مستمر لملاحقة نمو السكان المستمر.
  • إعطاء المواصلات العامة الأفضلية على المواصلات الفردية.
  • على واضعي وخططي السياسة الحضرية تصور المدينة كمنظومة بنيوية في نمو وتغير مستمرين.
  • تشكل المواصلات شبكات متصلة تساعد في خلق أحاييز داخلية وخارجية مترابطة ينبغي تطويرها بصورة مستمرة بإقامة تجارب مستمرة على النمو وعلى تغير هيئاتها.

توفر الأراضي الكافية والمناسبة للنمو الحضري

  • الحاجة إلى وضع قوانين وحلول وافية لمشكلة توفير أراضي كافية للنمو الحضري.

البيئة الطبيعية والتلوث البيئي

  • حلول وضوابط فورية لإيقاف التدهور السريع في البيئة الحضرية والحفاظ على البيئة الطبيعية في التخطيط والعمارة والمعايير الهندسية والسياسات العمرانية.

حماية والمحافظة على القيم الحضارية والتراث التاريخي

  • الحفاظ على المواقع الأثرية والتاريخية في المدينة.
  • حماية القيم ذات الأهمية الأساسية في تحديد مفهوم الجماعة والمجموعة وكذلك الخاصية القومية والوطنية في العمران.
  • تنسيق مجهودات الحفاظ على التراث العماري مع عمليات التطور الحضاري بغية الحفاظ على قيمها وعلى توفير المال اللازم لتلك العمليات.
  • يجب أن يشمل مفهوم الحفاظ على الأبنية المعاصرة ذات القيم العمارية العالية.

التقنيات

  • التطور الصناعي وتأثيره على البناء الحضري.
  • تطويع التقنية لحل المشاكل العمارية والتغلب على الصعوبات في تطبيق التخطيط.
  • مقاومة تيارات سوء استعمال التقنيات والمواد والهيئات العمارية لاخراج عمارة هجينة منقولة عن حضارات أخرى.
  • تصميم العمارات بحيث يكون لها القدرة على العمل وفق المستطاع تحت ظروف الطقس الطبيعية.
  • التقنية هي وسيلة وواسطة وليست غاية. ويجب الوصول إلى حلول عمارية سليمة حتى بدون تقنية متطورة.
  • على العمارة والتخطيط إيجاد الحلول للعمل ضمن ما هو مستطاع.
  • توجيه الإنشاءات نحو حلول اقتصادية سليمة يتم بموجبها تدوير المواد الانشائية والأجزاء البنائية الصالحة للاستعمال ثانية.

التنفيذ

  • لكل مدينة أسس تطور ونمو وخاصية يجب تثبيتها في مبادئ التخطيط والتنفيذ وبذلك سيتم تجنب التقليد الأعمى في تنمية المدينة والحفاظ على خاصياتها.

التصميم العمراني

  • ليست مشكلة العمارة في عصرنا هذا هو التناغم والتناسق البصري للكتل البنائية. بل إن مشكلة العمارة الآن هو خلق أحاييز وفضاءات حيث يمكن للناس العيش.
  • تؤكد العمارة في عصرنا هذا على معنى المحتوى والمضمون لا على الإناء الحاوي. وتؤكد على استمرارية النسيج الحضري العمراني لا على البناء الواحد المعزول مهما كان جميلا ومتميزا.
  • التقدم بالعمارة والعمران نحو حقبة جديدة من الحداثة تتميز بالوضوج.

بعض ثوابت الممارسات العمارية

  • تحليل معنى المحتوى والمضمون للأبنية تحت التصميم.
  • تبني المفهوم الزمكاني ورفض مبادئ المنظوري في رؤية العمارة.
  • توحيد العمارة وهندسة الإنشاء.
  • استمرارية الحيز العمراني.

التكامل

  • عدم الكمال والاكتمال هو ميزة عصرنا هذا. وليس هذا المبدأ هو مبدأ بصري فحسب بل أنه مبدأ اجتماعي أيضا. فالخبرة المعاصرة في الفنون والعمارة أثبتت أن الفنانين لا ينجزون أعمال فنية متكاملة ومنتهية فنيا. بل أنهم يقفون عند نقطة الثلاثة أرباع ليدعو المشاهد والسامع والممارس لإكمال الربع الآخر بنفسه. مستعمل العمارة ليس عضوا سلبيا أو شيئا يوضع في عمارة جاهزة من كل نواحيها ولكنه عضو فعال له خيارات ويرغب أن يسهم ويساهم في عملية إخراج وإنهاء العمل العمراني والفني. فيجب أن يساهم الناس في كافة مراحل البناء من التصميم وحتى الإخراج والتنفيذ وبذا يسمح للمستعمل أن يصبح جزأ مهما من العمل العماري.
  • إن مساهمة المستعمل في عمليات التصميم والبناء يجب أن لا تقلل من مكانة العماري والمصمم.ومثل ذلك مثل النظريات النسبية التي لم تقلل من قيمة العلماء بل بالعكس أغنتهم وقوت مركزهم.فالمصمم المرن محترم أكثر من المصمم الجاف المتقوقع.فإذا انجر الناس إلى عمليات المساهمة بالتصميم أيضا فستزداد أهمية العماري بها.
  • على العماري أن ينظر بدقة إلى العمارة الشعبية وإلى العمارة بدون عماري وعليه استلهام تلك العمارة والقرب من أهدافها.